عندما عُدتُ من جولةٍ ثقافيَّةٍ لي في رومانيا دامَت أسبوعًا كاملاً وتكلَّلَت بلقاءاتٍ عديدةٍ ونتائجَ عمليَّةٍ، لم أتوقَّعْ أنْ تعيشَ تلك البلادُ في داخلي طويلاً كما ما زالَت تَعيش، ولا أنْ آخُذَ من شعبها هذا الكَمَّ من الدُّروس والعِبَر:

إميل، وتواضُعُ العُلَماء

فقدِ استقبلني في مطار بوخارست، في الرَّابع من تشرين الأوَّل 2017، وزيرُ الاندماج الأورُبِّيِّ السَّابق إميل دينغا (Emil Dinga)، وحملَ حقيبَتي – وما أدراكُم كَم كانَتْ فاديا، قرينتي، قد حَشَتْها بالثِّياب، وكَم حَشَوتُها أنا بالكُتُب – ونزلَ بها الأدراجَ، وشالَها في صندوق سيَّارته الخاصَّة الَّتي نقلَني بها إلى مدينة تيكوتش (Tecuci) في مولدافيا، وهي بعيدةٌ لِما مدَّتُه ثلاث ساعات من القِيادة! وكانَ انطلقَ من المدينة المذكورة نحو الثَّالثة بعد مُنتَصَف اللِّيل لمُلاقاتي في المَطار عندما حطَّتْ طائرتي في السَّادسة والرُّبع صباحًا.

وقد أدرَكْتُ منذُها مدى تواضُع الرُّومانيِّ، ومدى استِعداده للخدمة، تمامًا كما أدرَكْتُ سِعَةَ معلومات السَّيِّد دينغا في عالَم الاقتصاد والمال، لا بل في عالم فلسفة الاقتصاد والمال، وللرَّجل، في الموضوع الأخير، نظريَّاتٌ فريدة، تبادَلنا الآراءَ فيها بفَرَنسيَّته „المُكَسَّرَة” وإنكليزيَّتَينا غير المُكتَمِلَتين، وتفاهَمنا حولَها، كما حولَ موضوع الأنسَنَة والتَّأنسُن.

دُخولٌ مُظَفَّر، وبدايةُ مَلحَمَة

كانَ عليَّ أنْ أرأَسَ مهرجانَ الشِّعر الحكميِّ الأوَّل الَّذي نظَّمَته مؤسَّسةُ بيلين (Fundaţia Pelin) في مدينة تيكوتش بإدارة الشاعر الكبير فاسيلي غيكا (Vasile Ghica)؛ وما إنْ دخلتُ مع إميل المدينةَ „مُظَفَّرًا” حتَّى كانَ العزيزُ فاسيلي في انتِظاري في زاوية أحد الشَّوارع، فرحَّبَ بي، وانتقَلنا سويًّا إلى مقرَّ مؤسَّسة بيلين الثَّقافيَّة حيثُ كان ينتظرُني أوجين دورو بيلين (Eugen Doru Pelin)، رئيسُ المؤسَّسة؛ ولم يتأخَّر، هو الآخَر، في حَمل حقيبتي وإيصالها إلى مكان إقامتي، في الطَّابق الثَّالث من المؤسَّسة.

وبدأتْ، منذ اللَّحظة الأولى، „المَلحَمةُ النَّعمانيَّةُ الرُّومانيَّة”:

فبُعَيدَ استِقراري في تيكوتش، قُمتُ مع فاسيلي والسَّيِّدة ليديا كوستيا (Lidia Costea) المُترجِمةُ الرَّائعةُ الَّتي رافقَتْني، تَطَوُّعًا، خلال كامل إقامتي في رومانيا – بزيارة مُتحَف تيودور تشينكو (Teodor Cincu Museum)، أجريْتُ بعدَها، في راديو تيكوتش، لقاءً لأكثر من ساعة مع الإذاعيِّ كريستيان بوخريب (Christian Pohrib)، تعدَّى الثَّقافةَ إلى السياسة والاقتصاد والإنسانيَّات، في حضور الدُّكتور أياد حمَّاد الَّذي تولَّى التَّرجمةَ من العربيَّة إلى الرومانيَّة، والسَّيِّدة ليديا الَّتي ترجمَتْ من الفرنسيَّة إلى الرُّومانيَّة، فيما تحدَّثتُ مع كريستيان ببعض الإنكليزيَّة. وقد قالَ لي الأخيرُ إنَّه يعرفُني منذ العام 2002 حين أتيتُ رومانيا وشاركْتُ في مهرجان الشِّعر الدَّوليِّ في كورتا دي أرغِش (Curtea de Arges) وفزتُ يومَها بأعلى جوائز أكاديميَّة شرق-غرب، عنَيتُ جائزةَ الشِّعر العالميَّة الكبرى، وفازَ هو بإحدى الجوائز الأخرى، وقُلتُ في نفسي: „ما أصغرَ العالَم، وما أصغَرَني لأُمنَحَ تلك الجائزة!”

تكريمٌ أوَّلُ ودعمُ الأقوال بالأفعال

قبل ظهر اليوم التَّالي، الخامس منه، كانَ فاسيلي لي بالمرصاد، فأخذَني مع ليديا إلى دار البلديَّة، وأنا „يا غافِل إلَك الله”، لا أعرفُ ما يُدَبَّرُ لي. كانت مناسبةُ يوم التَّربية الوطنيِّ في رومانيا، وقد اجتمعَ في قاعة البلديَّة الكبرى جميعُ مُديري المدارس والثَّانويَّات في تيكوتش، فجَرَى تكريمُهم، ثمَّ كُرِّمتُ بدوري من قبل رئيس البلديَّة كونستنتان كاتالان هوردوباي (Constantin Catalin Hurdubaie) بعدما قدَّمني فاسيلي مُذكِّرًا بأنَّني قُلتُ له قبل قَبول دعوته لرئاسة المهرجان الحِكَميّ: „إلى أين تأخذُني؟ فأنا لا أجدُ تيكوتش على الخارطة”. وبعدما قالَ فيَّ هوردوباي الشَّيءَ الكثير، أنا اللبنانيَّ والعربيَّ الأوَّلَ الَّذي يُستقبَلُ في المدينة، تولَّيتُ الكلامَ قبل نخب المناسبة، فتحدَّثتُ في الشَّأن الثَّقافيّ، ورَدَدْتُ على فاسيلي قائلاً بأنَّ „تيكوتش ستَغدو بعدَ الآن، كما سيَغدو أهلُها، في قلبي”، ووعَدْتُ المكتبةَ البلديَّةَ بجناحٍ من الكتب، بالعربيَّة وسواها، تقدِّمُها مؤسَّستي للثَّقافة بالمجَّان.

ولَم أتأخَّر في دعم الأقوال بالأفعال، فزُرْتُ مباشرةً مديرةَ مكتبة شتيفان بيتيكا البلديَّة (Biblioteca Municipalã Ştefan Peticã) السَّيِّدة مانويلاَّ شيبراغا (Manuela Cepraga)، واتَّفقتُ معها على التَّفاصيل بعد جولةٍ في المكتبة.

تكريمٌ ثانٍ وشَرحُ مبدإ المجَّانيَّة

بعد هذا، التقيتُ في مقرِّ مؤسَّسة بيلين مجموعةً كبيرةً من أساتذة ومعلِّمات وطلبَة ثانويَّات تيكوتش، فعرَّفَ بي فاسيلي غيكا، وقرأت ليديا كوستيا ترجمةَ كلمتي في الحضور، وفُتِحَ بابُ النِّقاش مع هؤلاء، فشرحتُ  مبدأ المجَّانيَّة الثَّقافيَّة لديَّ، وأوضَحتُ لهم أنَّني إنسانٌ بسيطٌ، ما زلتُ أعملُ لكَسْب العَيش، وكيف أنِّي أصرفُ من الجيب الخاصِّ في موضوع أنشطتي الثَّقافيَّة المختلِفة، وكيف أنِّي اضطرَرتُ إلى الاستِدانة للاستِمرار بها.

وتلا ذلك استقبالُ وفدٍ من مدرسة تونو جيورجيانا الثانية في برشي (Tonu Giorgiana 2 Barcea) برئاسة مديرتها إيلي بيتريتا (Ílie Petríta) الَّتي قدَّمَتْ إليَّ لوحةً حِرْفيَّة.

وَعدٌ بكتابٍ مجَّانيٍّ خُماسيِّ اللُّغات في مدرسة هوغاش

كان السَّادسُ من تشرين الأوَّل يومَ مهرجان الشِّعر الحِكَميِّ الطَّويل، وقد وَفَدَ عددٌ كبيرٌ من الشُّعراء الرُّومان، قد يكونُ تجاوزَ الثَّلاثين، من داخل البلاد وخارجها، للاشتراك فيه. وتوزَّعَ الشُّعراءُ صباحًا على مدارس مدينة تيكوتش، وأخذني فاسيلي، أنا وليديا والشَّاعرة ألينا بريجي (Alina Breje)، إلى مدرسة  كاليسترات هوغاش (Calistrat Hogaş)، مع ثلاثةٍ من الشُّعراء المُشاركين في المهرجان، لِلِقاء الطَّلبة الثَّانويِّين. وما إن قدَّمَ الطَّلبَةُ أوَّل حِكمةٍ كتبوها، بالرُّومانيَّة والفرنسيَّة والإنكليزيَّة، مع رسمٍ يُمَثِّلُ معناها، حتَّى خَطَرَتْ لي فكرةٌ طرَحتُها بعدما انتهى اللِّقاءُ، فقُلتُ للجَمع ما معناهُ واختِصارُه: „أتَحدَّاكم”، فكانَ ذُهولٌ، وأتبَعتُ: „سنخرجُ معًا الآن إلى ساحة المدرسة، ونأخذُ صورةً جَماعيَّةً بالقرب من تمثال هوغاش، وستُطبعُ تلك الصُّورةُ على الغلاف الأخير لكتاب الحِكَم الَّذي ستكتبونه بالرُّومانيَّة، وتُتَرجمونه إلى الفرنسيَّة والإنكليزيَّة، وسأُترجمُه شخصيًّا إلى العربيَّة”؛ وهنا قاطعَتني ألينا قائلةً: „وسأُترجمُه أيضًا إلى الإيطاليَّة”، فأردَفتُ: „سيُنشَرُ الكتابُ، إذًا، بخَمس لغات، وتوضَعُ فيه الرُّسومُ النَّاجحةُ الملائمة، ويُطبَعُ بثلاثة آلاف نسخة، تُوَزَّعُ في العالَم، وكذلك خلال أحد المهرجانات الحِكَميَّة اللاَّحقة في تيكوتش، وبالمَجَّان بطبيعة الحال”. قُلتُها، وخرَجنا للحال، وأخذنا الصُّورة، وبدأ العملُ بإشراف فاسيلي غيكا وبمساعدة بعض المُعلِّمات والإداريِّين في المدرسة.

على كُرسيِّ رئيس الأساقفة!

وفي فترة ما بعد الظُّهر، جرى لقاءٌ في مِطرانيَّة المدينة بحضور البروتوبوب جوغيو غيورغِه (Joghiu Gheorghe)، وأُعطيتُ كُرسيَّ رئيس الأساقفة في الصَّالة الكبيرة لأجلسَ، ففعَلْتُ في خَفَرٍ، وبعدَ تردُّد. وطُلبَ منِّي أنْ أُسَلِّم شهادات التَّفوُّق على الطَّلبة والأساتذة والمُعلِّمات المُشاركين والمُشاركات في المهرجان، ففعَلْتُ، ثمَّ انكفأتُ إلى كرسيٍّ جانبيٍّ في الصَّالة، فيما أُلقِيَت قراءاتٌ من الشُّعراء المُشاركين في المهرجان الَّذي جَمَعَ جمهورًا غفيرًا.

توزيعُ جوائزَ، نقاشٌ، و”مجَّانًا أخذتم، مجَّانًا أعطوا”!

وبعد غداءٍ جمعَ كلَّ الشُّعراء المُشاركين في أحد مطاعم المدينة، جرَتِ الحفلةُ الخِتاميَّةُ للمهرجان، ووُزِّعَت على الفائزين الجوائزُ، بحضور رئيس البلديَّة الَّذي ألقى كلمةً بالمناسبة شدَّدَ فيها على دور الثَّقافة في نهضة الأُمَم، وأثنى على ما أقومُ به عبرَ مؤسَّسة الثَّقافة بالمجَّان. وقد سلَّمتُ، للمناسبة، العديدَ من جوائز التقدير إلى مُنظِّمي المهرجان والفائزين فيه، بالإضافة إلى مجلَّدي المُعَنوَن „النَّاجيَّات”، والصَّادر في أربعين لغةً ولهجة، ومجلَّد „لبنان صورةً وشِعرًا”، للصَّديق الشَّاعر أنطوان رعد؛ فيما عُيِّنتُ، في نهاية المهرجان، سفيرًا للثقافة.

ومن الذين حازوا جوائزَ التقدير على أنواعها: فالريو بوتولِسكو (Valeriu Butulescu)، من رومانيا، وألينا بريجي (Alina Breje)، من إيطاليا، وإيونوتش كاراغِيا (Ionut Caragea)، من كندا، وأندري بتروش (Andrei Petruş)، بالإضافة إلى رئيس البلديَّة هوردوباي، والعزيزَين فاسيلي وأوجين دورو.

ولم ينتهِ المهرجان من دون نقاشاتٍ، ولاسيَّما حين لم يتقبَّلْ أحدُ الشُّعراء مبدأَ الثَّقافة بالمجَّان الَّذي أطلقتُ وما زلتُ أرعى بعرق الجبين ودم العروق وخُفوت الأسلاك البَصَريَّة، فاستغلَّه ليَستَطردَ في الكلام، ويَغوصَ في واقع الكتابة „المُزري” بحَسَب قوله في رومانيا، إلى أنِ انبَرى له شاعرٌ آخرُ مُدافِعًا، فيما ليديا تُتَرجمُ لي العناوين الكبرى للسِّجال، وأنا أبتَسِم. وقد شكرتُ الشَّاعرَين بعدما انتهَيا من التَّواجُه، واحترمتُ رأيَ كلٍّ منهما في ما هو من الوضع الرَّاهن للثَّقافة الرُّومانيَّة، ودافَعتُ فقط عمَّا يَعنيني في الموضوع، أي عن الثَّقافة بالمجَّان، وذكرتُ أنَّه، حتَّى بين المُقَرَّبين إليَّ مَن لم يفهمْ بعدُ خلفيَّةَ الفكرة المُضادَّة لمِركَنتيليَّة العَصر، وشرَحتُ أنِّي لستُ من الأغنياء، بل ما زلتُ أعملُ لأكسبَ المالَ، وأصرفُ ما أكسبُه، وسوى ذلك من مالي الخاصّ، على أنشِطة مؤسَّستي للثَّقافة بالمجَّان، وأنهيْتُ بأنَّ السَّيِّدَ المسيحَ، إنِ عُدَّ إلهًا أم مجرَّدَ إنسان، قالَ ذات يوم: „مجَّانًا أخذتم، مجَّانًا أعطوا”، وأنا أُحاولُ القيامَ باليَسير في هذا الخصوص… وعَلا التَّصفيق!

في مزرعة أنموذجيَّة

إنتهى الجُزء المُتَعَلِّقُ بالمهرجان من زيارتي، وكان عليَّ أنْ أُتابعَ ما نظَّمَه لي العزيزان فاسيلي ودورو من زياراتٍ خاصَّةٍ ارتَدَتْ طابعًا شبهَ رسميّ. فبَدأتْ جولاتٌ نفَّذتُها بحَسَب ما رَسَماه، تُرافقُني فيها ليديا، المُترجمَةُ المُتَطَوِّعةُ الوفيَّة، راكِبَةُ الدَّرَّاجة الهَوائيَّة، وإنَّما الحامِلةُ أيضًا وسامَ السُّعُف الأكاديميَّة من الدَّولة الفرنسيَّة!

فقبلَ ظُهر السَّابع من تشرين الأوَّل، قصدتُ مع ليديا، في سيَّارة فاسيلي، ومع هذا الأخير، بالإضافة إلى أحد الشُّعراء الظُّرفاء، شركةَ أكريما بناحية ماتكا (Acrimat – Matca) حيث سلَّمتُ المديرَ الاقتصاديَّ هناك، فاسيلي أرهيب (Vasile Arhib)، جائزةً شرفيَّةً بِاسم الغائبِ بداعي السَّفَر، غافريلا توشيلوسوس (Gavrilã Tuchilus)، رئيسِ مجلس إدارة الشَّركة، والمهندسِ الزراعيِّ الرَّائد الَّذي حلَّقَ بعيدًا في مجاله، وذلك بعد جولةٍ طويلةٍ طويلةٍ على الأقدام – بلُبْس مِعطفٍ وتحت مطرٍ – في المزرعة الأنموذجيَّة المُترامية الأطراف، جولةٍ انتهَتْ إلى مائدةٍ وكأس!

في كاتدرائيَّة القدِّيس جاورجيوس، أو كيف جُعِلْتُ رئيسَ أساقفة!

وفيما أطلَّ الثَّامنُ من الشَّهر ببدايات تعليقاتٍ صحافيَّةٍ على المهرجان، وعلى الكلمات الَّتي أُلقيَتْ فيه، وعلى الأحاديث الَّتي أُخِذَتْ منِّي، دَعاني فاسيلي إلى زيارة كاتدرائيَّة القدِّيس جاورجيوس بمدينة تيكوتش للمرَّة الثَّانية، تُرافقُنا ليديا.

دخَلنا الكاتدرائيَّةَ، وكان قدَّاسُ يوم الأحد في مرحلة تناوُل القربان المقدَّس، والمؤمِنون في وُقوفٍ منذ ساعةٍ على الأقلّ، أي منذ بداية الذَّبيحة الإلهيَّة، على عادة الرُّوم الأرثوذُكس في شرقيِّ القارَّة الأورُبِّيَّة. وإذْ كنتُ أُتابعُ خُشوعَ إحدى الصَّبايا المُؤمِنات الَّتي كانت تَسجدُ، بين ركوعٍ وضَرب رأسٍ في أرض، لعَشرات المرَّات، لم يَفُتْني تحرُّكُ فاسيلي „المُريب” نحو البروتوبوب غيورغِه الَّذي أعطى الإشارةَ إلى المؤمنين، على ما يَبدو، بعدم مغادرة الكنيسة بعد انتهاء القدَّاس، فامتَثَلَ الجميع. وما لبثَ المذكورُ أنْ دعاني إلى المذبح، ففعَلْتُ، وراحَ يتكلَّمُ عليَّ بالرُّومانيَّة إلى المؤمنين، وليديا تُتَرجم. وما إنِ انتهى حتَّى تابعَ فاسيلي الكلامَ-العَسَلَ عليَّ، وأفاضَ بالكلام على لبنانَ وحضارته السَّبعِيَّةِ الآلاف، وعلى الثَّقافة وما أقومُ به من أنشِطَةٍ ثقافيَّةٍ مجَّانيَّة، فيما أنا في حيرةٍ ممَّا يَجري، لا أَطيقُ أنْ ينتظرَ الجَمْعُ، بعدُ، لسَماع ما يُحكى عنِّي.

وحانَ وقتُ كلامي أنا، وماذا أقولُ ارتِجالاً في مؤمِنين، لو كانوا في لبنانَ، لأمطَروني، وأمطَروا الثَّقافةَ معي، بِوابِل نيرانهم، ولَكانوا، على الأرجَح، بدأوا يَشتمونني، ويَشتَمُّون روائحَ „المَشاوي”، ويُحرِّكون شِفاههم استِعدادًا لِعَضِّ مَبْسِم نارَجيلَتهم؟!

وقفتُ في الجَمع، إذًا، وجمَعتُ أصابعَ يدي اليُمنى، الإبهامَ والسَّبَّابةَ والوُسطى، وأَطلَقْتُها ترسمُ إشارةَ الصَّليب، قائلاً، بالعربيَّة: „بِاسم الآب والابن والرُّوح القُدُس، الإله الواحد، آمين”، وسطَ ذهولٍ عامٍّ بين الحاضِرين، إذْ ماذا يفعلُ هذا الرَّجلُ، وبأيِّ لُغةٍ ينطق، ومِن أيِّ كوكبٍ يهبطُ عليهم؟

وتابعتُ مُطَمئِنًا بأنِّي لن أُطيلَ انتِظارَهم، „فقد تعبتُ عنهم”، وشارحًا لهم أنَّني إنسانٌ „فقيرٌ” آتٍ من بلدةٍ لبنانيَّةٍ صغيرةٍ تُدعى حَريصا، عددُ أبنائها لم يَصِلِ الخمسمئة، وفيها عشراتُ الأديار والكنائس والمزارات، وكَذا خرجَتْ منها عشراتُ المَطابع. وقبلَ أن أُنهيَ ذكَّرتُهم بأنَّني كنتُ إكليريكيًّا ذات زمان، وبأنَّ عمِّي كان رئيسَ أساقفةٍ، لكنَّني لم أُكملْ تَكَرُّسي، لكنَّهم هم، أهلُ تيكوتش، جَعلوني رئيسَ أساقفةٍ دفعةً واحدةً عندما أجلَسوني قبلَ يومَين، في دار المِطرانيَّة، على كرسيِّ رئيس الأساقفة!

وهمَمَتْ بالخروج، فقابلَني الجَمعُ بما لا يوصَفُ من المَشاعر الَّتي لا يَستَطيعُ فارقُ اللُّغات أنْ يُخفِيَها: فمِن مُقعَدٍ يلمسُني، إلى عجوزٍ تُحادثُني  باللاَّحديث، إلى امرأةٍ تُقَرِّبُ إليَّ ابنَها، فيما طريقُ الخروج من الكاتدرائيَّة شِبهُ مُغلَقٍ عليَّ.

في ماراششت البطولة، وفي دير بوشيوميني النُّسكُ والعملُ، وفي نيكوريشت التَّضحية!

بعد زيارة الكاتدرائيَّة، قادني دورو بسيَّارته، ترافقُنا ليديا، لزيارة نصب الشهداء في ماراششت (Mausoleul Mãrãsesti)، حيث وضعتُ إكليلَ زهر على قبر الجنود الرومانيِّين الذين استُشهدوا خلال معارك العام 1917، واطَّلعتُ على معالم المتحف التابع للنصب.

وانطلقنا من هناك لزيارة دير بوشيوميني (Buciumeni) حيث التقيتُ الأمَّ ماكرينا وراهباتها، وزُرْتُ كنيسةَ الدَّير الصَّغيرة الرَّائعة، ومُتحفَ الإيقونات فيه، والحدائقَ الغَنَّاء، ووعدتُ بإرسال غَرْس أرز يُزرَع فيها، فيما وعدَتِ الأمُّ بإطلاق اسمي على الأرزة، فشكرتُها.

كما اطَّلَعتُ على حياة الرَّاهبات، فبين صلواتٍ وتأمُّلاتٍ صباحيَّةٍ لساعاتٍ ثلاث، وما يُماثِلُ ذلك في نهاية اليوم، لا يَتَوَقَّفُ العملُ عن تَكليل هاماتِ المُكَرَّسات بفرحٍ ما بعدَه فرح، حتَّى إنَّك إنْ نظرتَ في وجوههنَّ لم تجِدْ سوى ابتسامةِ السَّماء، وإذا سألتَ عن أعمارهنَّ وجدتَ كلَّ واحدةٍ منهنَّ في عُمرٍ نظريٍّ أدنى من عُمرها الفِعليِّ بعشر سنواتٍ على الأقلّ.

وقد حسدتُ الرَّاهبات على حياتهنَّ، أنا مَن لا يحسدُ أحدًا على شيء، ذلك أنِّي وجدتُ نفسي عندهنَّ، أكتبُ وأكتبُ وأكتب، دون إزعاجٍ من أحد! فاقترحَتِ الأُمَّ الرَّئيسةُ عليَّ أنْ أسكنَ بينهنَّ لأكتبَ، وأنْ أُعطيَهنَّ، في المُقابل، دروسًا… في الضَّاد وآدابها، فوعَدتُ بدراسة الموضوع!

وفي طريق العودة إلى تيكوتش، زُرْتُ مركزَ السامريِّ الصَّالح لأصحاب الحاجات الخاصة في نيكوريشت (Bunul Samaritean – Nicoreşti) حيث التقيتُ مديرَه إيونيل ميلينت (Ionel Melinte)، وقدَّرتُ التَّضحيةَ عبر العمل التَّطوُّعيِّ الثَّمين لهذا الشَّابِّ وفريق مُساعديه.

إلى غالاتْس دُرْ!

ومثَّلَ التَّاسعُ من تشرين الأوَّل موعدَ زياراتٍ أربع: الأولى للبروتوبوب جوغيو غيورغِه في تيكوتش، وقد سلَّمتُه شهادةَ تقديرٍ صُنِّعَت في المدينة، بالرُّومانيَّة، ووقَّعتُها بنَفسي، والثَّلاثِ الأُخرَيات تمَّتْ في مدينة غالاتْس، شماليَّ مولدافيا الرُّومانيَّة، برفقة البروتوبوب وفاسيلي وليديا، وكاهنٍ-سائقٍ سريعٍ ظريف، وقد جاءَتْ وقائعُها على النَّحو الآتي:

وصلنا جامعة دانوبيوس (Danubius) في غالاتْس، بعد مرورٍ على الدَّانوب الأدنى، فاستقبلَنا رئيسُ الجامعة بينوني بوشكا (Binone Puska) في مكتبه، في حضور كونستنتان فروزان (Constantin Frosin) الَّذي كان ترجمَ حِكَمًا لفاسيلي قمتُ بترجمتها بدوري إلى العربيَّة بمساعدة أمينة سرِّي، مرسال الأشقر، ونشرتُها بلغاتٍ ثلاث: الرُّومانيَّة والفرنسيَّة والعربيَّة، ووزَّعتُها، كما العادة، بالمجَّان.

وقد سلَّمتُ بوشكا شهادتَي تقدير، واحدةً له، وأخرى لابنه وساعده الأيمن، أندي كورنيليا، وجُلنا في الجامعة، والتقَينا طلبةَ أحد صفوف الحقوق فيها، وكانت لي فيهم كلمة.

لقاءُ التَّتويج لدى كاسيان، رئيسِ الأساقفة

بعد جامعة دانوبيوس، تُوِّجَتْ زيارتي إلى غالاتْس، لا بل تُوِّجَتْ جميع جولاتي، بزيارة رئيس أساقفة الدانوب الأدنى الدكتور كاسيان ألدوراني (Casian Al Dunari)، فتحاوَرتُ معه، بعدَ كلامٍ لفاسيلي حولي وحول أنشِطَتي، في أمورٍ ثقافيَّةٍ وكنَسيَّة، قالَ بعدَها رئيسُ الأساقفة فيَّ كلامًا لم يَقُلْه أحدٌ من قِبَل، فلَكأنَّه يعرفُني مِن قبل أنْ أولَد، إذْ وصفَ شخصيِّتي „الفريدة”، ومجَّانيَّتي „الرَّسوليَّة”، والأعمالَ „الرَّائعةَ” الَّتي أقومُ بها بأدقِّ الكلام، وأعذَبِه. وقد سلَّمْتُ كاسيان شهادةً شرفيَّةً ومجلَّدًا هديَّةً من توقيع أنطوان رعد، وتسلَّمتُ منه إيقونةً.

وسألتُ البروتوبوب عن رئيس الأساقفة بعد زيارتنا كاتدرائيَّة القدِّيس نِقولاَّوُس العظيمة المُلاصِقَة لدار رئاسة الأساقفة، فقال لي إنَّ كاسيان هذا لم يَقبضْ رواتبَه مُذ غدا رئيسَ أساقفة، وأنَّ ما يحقُّ له من أجرٍ شهريٍّ يُوَزَّعُ مباشرةً على دزِّينةٍ من طلَبَة الجامعة. وأجابَني، لمَّا سألتُه عن جناحَين مُتَقابلَين في الدَّار، أنَّ الأوَّلَ منهما مطعمٌ مجَّانيٌّ لكُلِّ مَن يرغَبُ في أكلٍ ومَشرَب، فيما الثَّاني مَشغلٌ حِرْفِيٌّ للنِّساء اللَّواتي لا مُعيلَ لهنَّ، يُغنيهنَّ عن العوَز، يَعمَلنَ فيه لقاءَ أجرٍ يُمكِّنهنَّ من العيش في شرفهنَّ وإبائهنَّ؛ وسألتُ نفسي: أفلا يجدرُ بنا، في لبنانَ، أنْ نَعودَ إلى جذورنا، ونقومَ بالمِثل؟

 حيث الرَّاهبةُ تُساوي ثلاث رجال!

وأنهيتُ زيارات هذا اليوم في دير كولوغانو (Cologanu)، حيث اطَّلَعْتُ على كنيسة الدَّير الجديدة، وكانَت قيدَ التَّزيين بالرُّسوم البيزنطيَّة، وكذلك على أعمال الرَّاهبات هناك، راهباتٍ إنْ لم يَكُنَّ في صلاةٍ وتأمُّلٍ، فإنَّهنَّ يَعمَلنَ في الحقول، يستَعمِلنَ „التراكتورات”، ويَعتَنينَ بتربية الماشية والدَّواجن والنَّحل، ولا يأكُلن إلاَّ ممَّا يُنتِجنَ. وقد أسرَرتُ إلى البروتوبوب غيورغِه: „كلُّ راهبةٍ هنا، وإنْ في الخامسة والسَّبعين من العُمر، تُساوي رجُلَين”؛ وأجابَني: „لا، يا عزيزي، بل تُساوي ثلاث رجال”! وسألتُ نفسي مُجدَّدًا: أين نحن، في لبنانَ، من حياة التَّكريس الحقيقيَّة، ولِمَ لا نتمثَّلُ، في أرض القداسة، أرضِنا، بمُكَرَّسين ومُكرَّساتٍ مِن مِثلَ مَن قارَبْت؟

أغراسُ الأرز وَصَلَت رمزًا للصَّداقة اللبنانيَّة-الرُّومانيَّة

       وبعدُ، أعرفُ أنَّني القائِلُ بأنَّ التَّعميمَ ظُلمٌ في كلِّ شيء؛ وأنا أُدركُ أنْ ليس كلُّ ما في لبنانَ سيِّئٌ، ولا كلُّ ما في رومانيا جيِّدٌ، ولكنَّ الرُّومانيِّين، في مولدافيا على الأقلّ، يَعيشون الزَّمنَ الجميلَ الَّذي عشتُه زمنَ طفولتي، مع أهلي، في ستِّينيَّات القرن الماضي، اجتماعيًّا وروحيًّا، وإنْ كانَتِ التِّكنولوجيا قد غَزَتهم كما غزَتنا في لبنانَ، وبَرعوا فيها أكثرَ ممَّا بَرعنا.

       ولعلَّ أكثرَ ما يُسعِدُني، اليومَ، أنَّني تمكَّنتُ، بعَونٍ من سيِّداتٍ رومانيَّاتٍ لبنانيَّات، من إيصال أربعة أغراس أرز إلى رومانيا، كَيما تُزيِّنَ تيكوتشَ وجوارها، وتتحوَّلَ رمزًا للصَّداقة اللبنانيَّة-الرُّومانيَّة الدَّائمة التَّجدُّد!

في 14 تشرين الثَّاني 2017